الصحفي سعيد نعام عن القصر الكبير :أراها كل يوم تفقد رشدها، وتتداعى إلى الحضيض
كانت القصر الكبير، إبان طفولتي ويفاعتي، تكتظ فضاءاتها بالأنشطة الثقافية ذات المشارب المتعددة، وكان لها أن تفخر، باستضافتها لشخصيات وازنة ، من عالم الفكر والسياسة والأدب، جاؤوها محملين بصيتها الثقافي الواسع السماع، وماضيها في النضال بكل تجلياته.
سنة 1965 حط الشاعر الكبير نزار قباني، رحاله الشعري في القصر الكبير، وألقى فيها باقة مزهرة من يانع أشعاره، ما تزال المدينة تتذكر أبياتا رائعة منها، باعتبار أنها شكلت "حدثا ثقافيا كبيرا" .
تجول شاعرنا في شوارع المدينة ودروبها العتيقة، واستنشق برئة ممتنة روائح الياسمين، ومسك الليل المنبعثة من بساتينها وحدائقها الغناء، فأطلق قولته الخالدة:
"أجمل ما في القصرالكبير ليله".
كان هذا التعبير الفاتن ،تمهيدا لتأسيس حركة شعرية، منها استوحى عميد الملحنين المغاربة وإبن البلد، عبد السلام عامر، أروع ألحانه في قصيدة "راحلة " التي أبدعها كلاما ،الشاعر عبد الرفيع الجواهري، وأبدعها صوتا وأداءا ،عندليب الأغنية المغربية الراحل محمد الحياني.
كانت القصر الكبير، ذاك الزمن، تصبح على مهرجان حافل، وتمسي على أمسية شعرية باذخة. أما الندوات والمحاضرات والأسابيع الثقافية، والأيام المسرحية، فقد كانت لا تتوقف إلا لتبدأ من جديد. وكانت إذاعة طنجة، في عصرها البلوري، تواكب هذا النشاط ،وتغطيه بما يستحقه من عناية .
ثم.. هوجمت المدينة بمشاريع إسمنتية ، عنوانها الذمامة ، أصحابها مرتبطون بكل شيء ،إلا بالفن والثقافة، يقومون بكل شيء ،حتى لا يتغير أي شيء ، بطون لا تشبع، عيون لا تدمع، وقلوب عليها أقفالها. عاثت في المدينة فسادا ، وحولت كل لون أخضر فيها، إلى لون الأجور،وربيبه الإسمنت. تطاولت أيادي أعداء شيكسبير، ويوسف وهبي، وعمالقة أبي الفنون ،على "المسرح البلدي" (سينما السويقة سابقا)، المتنفس الوحيد لشباب المدينة، فأصبح شققا ومحلات تجارية ،بجرة قلم عشاق الدرهم، الذين أعطاهم الشعب صوته، فأعطوه سوطه وظهره. كما لقيت باقي القاعات السينمائية نفس المصير، مفسحة المجال ،أمام أعداد هائلة من المقاهي ،ربما فاقت مقاعدها عدد سكان المدينة .
تناهى إلى سمعهم خوار بقرة حلوب، ضالة بالمدينة، إسمها "المجلس البلدي"، فأصبحوا فيه - بعصا سحرية - رؤساءا، وأعضاءا ونوابا برلمانيين. ساقوا المدينة العريقة ،إلى سوق النخاسة بثمن بخس، وكانوا فيها من الزاهدين. وتقلص دور الجمعيات والأندية ،في غياب الأيادي الداعمة، وتراجع دور المثقف القصري، ليتقمصه ما يسمى حاليا ( سوق سبتة )أو(شمتة)، الذي كان سوقا للقمح وكل الخيرات الفلاحية، مصدر العيش الحلال لمئات من الأسر، ثم تحول- لا أدري كيف؟ - إلى سوق لحبوب من نوع آخر،ومشروبات أخرى، وسلع مضروبة، أكسبت مروجيها ثراءا فاحشا ،على حساب عقول شباب مغرب الغد !!.
على مدى أزيد من ثلاثين سنة الماضية، لم يبادر أي مجلس من المجالس البلدية التي تعاقبت على تسيير شؤون الأمة ،إلى وضع مخطط مدروس وصحيح للتنمية الحقيقية، يجعل المدينة تواكب قاطرة النمو، في كل المجالات والقطاعات ،ويوفر الشروط الموضوعية ،لتحقيق إقلاع تنموي، اجتماعي وثقافي، يخرج الحاضرة من الحظيرة ، ومن كل مظاهر البؤس الذي تتخبط فيه.
حلت الصاعقة.. !!
استيقظ القصريون على أصوات شوارع مكتظة - درجة التخمة - بالمعتوهين، والمشردين، والحمقى من كل حذب وصوب.
هكذا انقلبت عبارة نزار قباني رأسا على عقب، وأصبح أخطر ما في القصر الكبير سيوف ليله ،وسكاكين نهاره، ونفاياته المتراكمة هنا وهناك، لتصيح المدينة ملء سخطها: وا .. نزارااااااااه... !!
يتردد صدى صوتها المبحوح، وقلبها المكلوم، بين أزقة "النيارين" و"باب الواد" و"دارغيلان" و "القطانين" و"دارالدباغ" دون أن يصل ، لبعد المسافة الزمكانية بين قبة مولاي علي بوغالب (شاي الله يا والي البلاد) ولندن عاصمة الضباب ، حيث كان شاعرنا الكبير ، يعيش منفاه الاختياري، وحيث لفظ أنفاسه الأخيرة ( !!).
هذا المحيط الموبوء بالخواء، الممسوس بالعقول الإسمنتية، التارك زمامه لعديمي الوعي الثقافي، وفقراء الوعي الحضاري، هو الذي لم يشجعني ،على الاستمرار في العيش بين أحضان مدينة ،أراها كل يوم تفقد رشدها، وتتداعى إلى الحضيض، بعد أن أسكروها حد الثمالة .. !!
تعليقات
إرسال تعليق