الصبر خلق المسلمين وسلوك المؤمنين
- الحصول على الرابط
- X
- بريد إلكتروني
- التطبيقات الأخرى
الصبر خلق المسلمين
وسلوك المؤمنين
الاستاذ محمد المودن
إن العبادة تمثل أسمى صور مناجاة العبد لربه، وهي مناجاة الخالق عز وجل
بالروح والعقل والجوارح، والعبادة الخالصة لله تعالى تجسد أبهى صور
الطاعة، والامتثال لأوامر الله ونواهيه، فالروح تسمو بتقوى الله، وتطمئن
بكثرة الذكر والتبتل إلى الله، والعقل يصحو بالتفكر في أسرار الكون، وملكوت
الخالق، والنفس تطهر وتطمئن بالطاعة والاستغفار والصيام والصلاة، "ألا
بذكر الله تطمئن القلوب".
ولتكون العبادة سليمة من الشوائب، نقية من
الأدران، على المسلم أن يتحلى بعدة صفات وأفعال سلوكية، ويتشبع بقيم روحية
وأخلاقية، كالتسامح والرأفة والصبر والتعاون، والرحمة والتضامن، وغيرها
من قيم الفضيلة، ونظرا لأهمية الصبر كخلق وسلوك يحصن العبادات، ( الصلاة ـ
الصيام ـ الحج ـ الزكاة ـ وغيرها من العبادات)، من كل نقيصة، ويحمي المسلم
من كل فسوق أو خطيئة، نفرد له هذا المقال:
يقول الحق سبحانه وتعالى
في محكم كتابه الكريم: "يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن
الله مع الصابرين". آية 153 ـ سورة البقرة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"فضل الإيمان الصبر والسماحة". حديث صحيح.
إن الإنسان معرض في هذه
الحياة إلى كثير من المصاعب، والمشاكل والمصائب، في شتى مناحي الحياة تمر
به أزمات مالية، وأمراض ووعكات صحية، ومشاكل اجتماعية، وأخطاء مهنية،
تصادفه في حياته مشاكل لا تعد ولا تحصى، والناس يختلفون في مواقفهم من تلك
المشاكل والمصائب حسب درجات إيمانهم وتقواهم، وقدراتهم وعزائمهم، منهم من
يتأفف ويسخط على الوضع، ومنهم من يتقبله، ويحمد الله على كل حال، ومنهم من
يصبر على ما أصابه، ويستعين بالله من أجل مواجهة ما حل به من مكروه، بالصبر
أولا، والبحث ثانيا، "وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور". آية 186ـ
سورة آل عمران.
فما هو الصبر؟ وخاصة صبر المسلم؟:
الصبر أن
يلتزم المسلم بفعل ما أمره الله به، ويتجنب ما نهاه عنه، وأن يتقبل بنفس
راضية ما يصيبه من مصائب الدهر وشدائده، والمسلم يتجمل بالصبر، ويتحمل
المتاعب والمشاق، ولا يجزع، ولا يحزن لمصائب الدهر ونوائبه، فالصبر امتحان
وابتلاء، والصبر مفتاح الفرج، ورضا بالقضاء واقدر، وطريق للنجاح والفلاح،
وعنوان للتقوى، " والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا
الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر". سورة العصر، "يا أيها الذين آمنوا
اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون". آية 200 سورة آل
عمران.
والصبر هو الخير كل الخير، بالصبر يحقق الإنسان مبتغاه، ينال
خير الدنيا والآخرة، يتمسك بالآمال، ويتوكل على الله، قال تعالى: "واصبر
فإن الله لا يضيع أجر المحسنين". آية 115 ـ سورة هود، وقال تعالى: "سلام
عليكم بما صبرتم، فنعم عقبى الدار". آية 24 سورة الرعد. وقال صلى الله عليه
وسلم. "ما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر".
والصبر عبادة: ولنا في
رسول الله أسوة حسنة في هذا الباب،فمن أجل تبليغ رسالة ربه، ونشر شريعة
دينه، تسلح صلى الله عليه وسلم بالصبر والتقوى، فقد صبر عليه الصلاة
والسلام على تنكر قومه وعشيرته لفضله، وتكذيبهم له وهو الصادق الأمين فيهم،
وإذايتهم له بشتى أنواع المضايقة والأذى: فقد نعتوه بالساحر، وبالمجنون،
ووضعوا على كتفي رسول الله بقايا الحيوانات ودماءها ومشيمتها، وهو ساجد في
صلاته، وقد خنق عقبة بن أبي معيط الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يصلي في
فناء مكة، وكانت قريش تسب النبي عليه الصلاة والسلام وتقول له: "المذمم" أي
عكس المحمود، قذفوه بالحجارة والنجاسة، أدموا قدمي الشريفتين في الطائف
عندما كان يدعوهم صلوات الله عليه إلى عبادة الله الواحد الأحد، وبدل أن
يدعو عليهم دعا صلى الله عليه وسلم لصالحهم قائلا: "اللهم اهد قومي فإنهم
لا يعلمون"، حاصروه بمعية أتباعه المؤمنون بشعاب طالب بضاحية مكة المكرمة،
قاطعوه وأصحابه بيعا وشراء، وكاد أن يموت كل من تبعه من المسلمين جوعا
وعطشا، آذى المشركون أتباع رسول الله من الذين آمنوا برسالته السماوية،
ولما علمت قريش بإسلام آل ياسر (عمار بن ياسر ـ أبوه ياسر ـ وأمه سمية)
اسرعوا إلى تعذيبهم عذابا شديدا، فلما مر عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم
قال لهم: "صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة"، فقد صبر آل ياسر، وتحملوا
العذاب الشديد في سبيل دينهم بقوة الإيمان، وصبر المؤمنين، وقد مات الأب
والأم من شدة العذاب، أما الابن فقد استشهد فيما بعد في إحدى المعارك ضد
المشركين، ليكونوا جميعا من السباقين إلى الجنة، بعد أن ضربوا لنا أروع
الأمثلة في الصبر، وقد بالغت قريش في تعذيب بلال بن رباح، حيث ألبسوه درعا
حديديا، ووضعوا على بطنه صخرة كبيرة، وتركوه تحت أشعة الشمس المحرقة، ولم
يكتفوا بذلك، بل وضعوا في عنقه حبلا، وأسلموه إلى الصبيان يجرونه، ويطوفون
به شعاب مكة، وهو يقول: "أحد أحد" فاعطى بلال رضي الله عنه للمسلمين مثالا
في الصبر والتجلد، ودروسا في الثبات والتضحية، والاستعانة بالله على
مواجهة الأذى والمكروه، كما نجد في صبر نبي الله أيوب عليه السلام أجمل
الصور، وأروع الأمثلة في الرضا بحكم الله وقضائه وقدره، كان أيوب عليه
السلام كثير المال والأهل، فابتلاه الله عز وجل، واختبره في ذلك كله،
فأصابته الأمراض، وظل ملازما لفراش المرض سنوات طويلة، يحمد الله على ما
أصابه، كما فقد ماله وأولاده، ولم يبق له إلا زوجته التي وقفت بجانبه،
صابرة محتسبة، وفية له، فأمره الله أن يضرب الأرض برجليه، ففعل، ففجر له
الله عينا باردة، وأمره أن يغتسل ويشرب منها، فشفاه الله، وأبدله صحة
وجمالا ومالا كثيرا، وعوضه بأولاد صلحين جزاء له على طاعته وصبره، قال
تعالى عن نبيه أيوب: "إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب".
تآمرت
جميع القبائل العربية بزعامة قريش على قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره
الله تعالى بالهجرة، وكادوا أن يظفروا به وهم قاب قوسين أو أدنى منه صلى
الله عليه وسلم بغار حراء، وهو يطمئن ـ عليه أزكى الصلاة والسلام ـ صاحبه
أبا بكر الصديق، مخاطبا إياه: "ماذا تقول في اثنين الله ثالثهما، لا تحزن،
إن الله معنا".
فضل الصبر: للصبر فوائد كثيرة، منها الروحية والنفسية
والاجتماعية، وغير ذلك من الفضائل والفوائد، فقد أعد الله للصابرين الثواب
العظيم، والمغفرة الواسعة، قال تعالى: "وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم
مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، أولائك عليهم صلوات من ربهم ورحمة،
وأولائك هم المهتدون" س البقرة ـ آية 155 ـ 156، وقال عز وجل: "إنما يوفى
الصابرون أجرهم بغير حساب" س الزمر ـ لآية 10، وقال صلى الله عليه وسلم: "
ما يصيب المسلم من نصب (تعب) ولا وصب (مرض) ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم
حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه" ـ متفق عليه.
إن
الصبر يجسد ثقة العبد في ربه، وقوة الإرادة لديه، وحسن توكله عل خالقه،
"فاصبر وما صبرك إلا بالله"، "ومن يتوكل على الله فهو حسبه"، فالمؤمن مدرك
لحقيقة وجوده، عارف بوظيفته ورسالته في الدنيا، مجد من أجل حسن مآله في
الآخرة، عارف بكنه علاقة العباد بخالقهم، وطبيعة علاقة الإنسان بأخيه
الإنسان، وبالكون ونظام الحياة، المبني على الثنائية، وعلاقة الشرط
بالمشروط، والسبب بالمسبب، فلكل داء دواء، ولكل قفل مفتاح، وبعد الليل يأتي
النهار، ولكل مشكل حل، وإن مع العسير يسرا، لذلك فالمؤمن انطلاقا من
قناعته الإيمانية يسعى بكل ثقة وصبر لتغيير الحال بأحسن حال، ولا يستسلم
لنوائب الدهر، ومشاكل الحياة، بل يعتبرها ابتلاء من الله، وامتحانا في
الدنيا، وفرصة للشكر والحمد، والرضا بالقضاء والقدر، خيره وشره، لذا يؤمن
جميع العارفين بأن الصبر مفتاح الفرج.
يعتبر الصبر خلقا إسلاميا
كريما، وسلوكا إيمانيا مفيدا، ومنهجا قويما للتغلب على المشاكل، وتحمل كرب
الحياة، وصنفا من العبادة المحمودة، فهو مفتاح للفرج، وزاد للتقوى، وعلاج
لليأس، يقوي الإرادة، وينمي الأيمان، فتزودوا بالصبر، فهو خير زاد، يضمن
لصاحبه الأجر، وللمؤمنين الصابرين النجاح في الدنيا، والفلاح في الآخرة.
- الحصول على الرابط
- X
- بريد إلكتروني
- التطبيقات الأخرى
تعليقات
إرسال تعليق