شفافية اللغة في مواجهة قلق الحياة قراءة في ديوان الشاعرة أمينة الصيباري ـ رجع الظلال
شفافية اللغة في مواجهة قلق الحياة
قراءة في ديوان الشاعرة أمينة الصيباري ـ رجع
الظلال
الفاهم محمد
قليلة هي التجارب التي تنفلت اليوم من
الإبتذال العاطفي والرومانسية الفاقعة التي تطغى على العديد من الكتابات الشعرية
وديوان رجع الظلال هو واحد من هذه الدواوين التي الظلال تحاول أن تشتغل ضد التيار
وضد ما هو سائد .
إن
أول سؤال تطرحه هذه القصائد هو سؤال اللغة ، فالشعر هو بالضرورة بحث عن لغة أخرى .
إن الشاعرة واعية بهذه المهمة لذلك هي تضع رهانها إنقاذ الكلمة من الإبتذال الذي
يمكن أن يطالها من خلال الإستعمال اليومي . فاللغة المتداولة اليوم هي لغة ميتة
فاقدة لأي معنى تقول : " سأشعل شمعة لكل حرف قتلت فيه المعاني غدرا " ص
25 . إن الحروف تموت عطشا إن لم تعتر على معانيها وهذه المعاني بطبيعة هي ما يتم
إحياؤه بواسطة القول الشعري .
بطريقة أخرى الشعر بالنسبة لأمينة هو الذي يعطي معنى للغة ويحييها من جديد
. إن الشعر بالنسبة لها صراع مع اللغة من أجل ابتكار دلالات تعبيرية جديدة ،
والذهاب بها إلى حدود الهسيس والبوح حيث تتدفق الكلمة آتية من معين الذات والوجدان
. تقول الشاعرة .
كالماء أنت أيها المجاز
طلال على خدود الزهر
مع ذلك هناك إحساس من طرف الشاعرة بصعوبة هذه
المهمة ، إذ ليس من السهل نحث لغة جديدة في ظل موروث شعري ضخم عرف بارتباطه الشديد
بالأوزان والتقيد بالقوافي . من هنا أخذت الشاعرة على عاتقها مهمة التمرد على
اللغة الكلاسيكية بغية خلق شكل تعبيري جديد تقول :
أيتها القصيدة العصماء
أغربي عن وجهي
أكره الوصايا في النثر
فما بالك بالشعر
لكن الملاحظ أنه رغم ثورة الشاعرة على اللغة
الكلاسيكية إلا أنها مع ذلك تستسلم في بعض القصائد لإلزامية الإيقاع والقافية ،
مما يدل على أن العلاقة مع اللغة ليست علاقة هادئة فأحيانا يستعصي الكلام ، بل إن
القول الشعري يصطدم باستحالة التعبير تقول:
يحدث أن يخطئ الكلام مقصده
كما تخطئ الحقائب أصحابها العائدين من سفر
طويل
في تخوم هذه اللغة
ماذا يوجد هناك ؟ ما الذي يخبرنا به القول الشعري عند أمينة الصيباري ؟ ذلك أن
الأدب ليس شكلا لغويا خاليا من المضمون ، بل هو شكل تعبيري ينتج أفكارا وإن كانت
أفكار ليست مستقلة بذاتها خارج شكلها التعبيري كما يرى بيير ماشري 1 . إن المشكلة
الشعرية عند أمينة هي ما يمكن أن نسميه بالإغتراب والتمزق والضياع والقلق المأساوي
بالذات والعالم . فالبحت عن اللغة المستحيلة ، وما يصعب التعبير عنه L’indicible
يصبح بحثا عن الآخر المستحيل ، الغامض ، بل
والمشكوك في وجوده أصلا تقول : لا أملك دليلا على وجودك غير الوجع القابع بالأحشاء
.
استحالة اللقاء هذه واضحة في القاموس المفرداتي
الحاضر في الديوان مثل : الوجع ، الصمت ، الخيانة ، السراب ، التيه ، الحلم الحنين
، الفقد ، الغياب ... إن معاناة الشاعرة ليست فقط مع اللغة وما يستعصي على البوح ،
ولكن أيضا مع قلقها الوجودي ، مع مساءلة الإغتراب والخسران على أن لا نفهم أن الأمر
هنا يتعلق باعترافات ذاتية . إن الذات الشعرية تعلو على الذات الواقعية ، من هنا
نفهم تلك الرقابة الذاتية والتكتم على صورة هذا الآخر الذي تمارسه الشاعرة مفضلة
الهروب إلى القهوة والإنغماس في الشعر والكتابة والليل والتطلع للنجوم والطبيعة .
إن الشعر الصادق هو الذي يتخلى عن الذاتية السطحية والفجاجة العاطفية وهذا هو ما
يسمى في النقد الشعري الحديث ب :" طرح النزعة البشرية " 2 .
بعد الموروث الشعري الذي تركه رامبو وبودلير وما
لارمي لا بد للشعر أن يكون قلقا ومأساويا وهذا هو ما تعرضه قصائد ديوان رجع الظلال
، لكن مع ذلك ورغم هذا القلق المأساوي وهذا الإنكسار هناك تشبت بالحياة وبالرغبة
في المضي قدما وتحويل الخسارة إلى شيئ جميل تقول :" لي أجمل الخسارات "
هذه الخسارة الجميلة التي لن تكون في نهاية المطاف سوى الشعر ذاته . باختصار نقول
بأن الشاعرة أمينة تمثل إضافة نوعية في المشهد الشعري بلغتها الشفافة ودلالاتها
المكتفة وعباراتها التي تمضي كالبرق ، نتمنى لها المزيد التألق والعطاء ، المزيد
من الخسارات الجميلة .
الهوامش
1 ـ بيير ماشري : بم يفكر الأدب ـ تطبيقات في
الفلسفة الأدبية . ترجمة جوزيف شريم ، المنظمة العر بية للترجمة ، الطبعة الأولى
2009
2 ـ عبد الغفار مكاوي : ثورة الشعر الحديث من
بودلير إلى العصر الحاضر ، الجزء الأول ، الهيأة المصرية العامة للكتاب 1972 ص 252
تعليقات
إرسال تعليق