قصة_قصيرة الهروب الكبير (اهداء الى كل الجناتل المغاربة)
زكرياء الساحلي :
ذات يوم من خريف سنة 2007 أخبرني صديق أن شركة دانون بمدينة القنيطرة فتحت أبوابها لاستقبال طلبات التشغيل برواتب مشجعة.
أعددت سيرة مهنية ( السيڤي ) غزيرة بسرعة ثم سافرت إلى عاصمة الغرب باكرا في أول حافلة مسلحا بمبلغ 500 درهم، هي كل ما كنت أملك. وقبل شروق الشمس كنت قد أودعت طلبي في الشباك المخصص لطلبات التشغيل.
اِغتنمت الفرصة، وقررت القيام بجولة للتعرف على هذه المدينة التي أزورها لأول مرة. دخلت أولا إلى ملبنة صغيرة، وتناولت وجبة الفطور، ثم انطلقت أصول وأجول في شوارع المدينة إلى أن وصلت إلى محطة الطاكسيات المتوجهة إلى المهدية. ورغم أنه فصل الخريف قررت أن أزور البحر، فكما يقول المثل الدارجي ( حجة وزيارة ).
جلست على ناصية أحد المقاهي المطلة على البحر، وأنا أنتشي بشرب قهوة سوداء، وأدخن سيجارة من نوع مارلبورو ( التي أدخنها فقط في المناسبات ) اقتربت مني فتاة جميلة، وطلبت مني استعمال القداحة لإشعال سجارتها. تطوعت كجنتلمان لإشعالها وأنا أتأمل وجنتيها، وأمرر عيني على الأخدود الذي يفصل بين نهديها، وهي تنحني أمامي ورائحة عطر أخاذ تفوح منها.
قلت في قرارة نفسي: " دخان السجائر ورائحة العطر لا ينسجمان "
سألتني:
- لماذا تحدق بي بهذه القوة ؟
- صراحة لأول مرة أرى فتاة تدخن.
ابتسمت وقالت:
- من أين أنت ؟
أجبتها:
- من القصر الكبير.
القصر الكبير لم أسمع بها قط.
- إنها في شمال المغرب.
دعوتها للجلوس لإحتساء كأس قهوة معي، فأخبرتني أنها تنحدر من مدينة الجديدة، وأنها متوجهة إلى مدينة طنجة، وهي كذلك أول مرة تطأ قدميها مدينة القنيطرة التي نزلت فيها مضطرة بسبب عطل أصاب سيارتها على مشارف المدينة، ولن تكون جاهزة إلا بحلول المساء - وفق ما أخبرها الميكانيكي- وهي كذلك قررت استغلال الفرصة والتعرف على القنيطرة، إلى أن وجدت نفسها على شاطئ المهدية تجاذب أطراف الحديث معي في انسجام كبير.
وفي نهاية الجلسة أعفتني، بإصرار منها، من دفع الفاتورة، ودعتني للتجول معا للتعرف على المهدية، وأزقتها.
بينما نحن سائران كانت تقص لي مسار حياتها وأخبار عائلتها وأصدقائها، كنت أنا أتأمل تفاصيل جسمها. فهي فتاة عشرينية، قصيرة القامة، ذات شعر أسود براق، وبشرة بيضاء صافية، ذات قوام متناسق أو كما نطلق عليه بالدارجة ( حوتة ) لم أكن انتبه كثيرا إلى كلامها، فقد كان عقلي يجنح لكثير من الافتراضات عن مآل هذا التعارف، لكني كنت أتساءل في قرارة نفسي " لماذا لم تسألني عن عملي ؟
فجل الفتيات، أثناء فترة التعارف، يسألن سؤالهن المعهود ( شنو كدير فحياتك ؟ شحال كتشد ؟)
ربما هذه فتاة مختلفة، لا تهتم للأمور المادية، أم أنها محترفة لدرجة تحديد المستوى الاجتماعي للناس فقط من خلال ملابسهم لكن المظاهر خداعة، تأملتُ فيما ارتدي من ملابس خريفية. كنت ارتدي سروال جينز من نوع Selvedge denim وقميص من نوع oxford shirts ومعطفا طويل من نوع overcoats محمولا على يدي اليسرى المزينة بساعة من نوع Hublot إضافة إلى شال رجالي ملفوف نصف لفة على عنقي، لكن وللاسف فكل هذه المقتنيات التي أرتديها سبق أن اشتريتها من جوطية ( الغرسة الكبيرة ) من تطوان.
قررنا تناول وجبة الغذاء بما أننا كنا قد اقتربنا من أحد المطاعم الفاخرة، فدعوتها للدخول لكنها فضلت البقاء في الجهة الخارجية للمطعم، وقبل الجلوس استأذنتني للدخول الى المرحاض، فذهبت وأنا أتتبعها بناظري، وقبل أن تلتفت يمينا استوقفها النادل فتحدثت معه قليلا، وأكملت مسارها.
أخبرتني بأنها قد تكلفت بإخبار النادل بإعداد أشهى الأطباق، فهي لم تتناول الطعام طيلة اليوم بسبب غضبها من العطل الذي أصاب سيارتها، لكنها بعد محادثتها لي قالت ربما في ذلك خير، فبسبب هذا العطب قد تعارفنا، وأنا أومئ برأسي مؤكدا على كلامها.
وضع النادل أمامنا صينيتين من السلطة الخضراء وقدحين من شوربة السمك، و طبقا ضخما من الأسماك المتنوعة المزينة بالكالمار والحبار والݣمبري، كل هذا مرفوق بقدحين صغيرين من الكافيار.
ومع كل طبق يضعه النادل، كانت ترتسم على وجهه ابتسامة، وعلى وجهي أنا تكشيرة، وأبتلع ريقي باحثا عن مكان لائحة الأثمنة.
كنت أدخن بشراهة، وبايقاع سريع غير مبالٍ بحديثها المتحذلق، وكل همي ما ستؤول إليه هذه الورطة، وكان واضحا أنني سأتكبد، لوحدي، ثمن الفاتورة بما أنني أنا الذي دعوتها لهذه الوليمة.
تزامن جلوسنا في المطعم مع تغيير طاقم الخدمة. فور أن خدمنا النادل الأول غادر، وعوضه نادل آخر، سرعان ما تقدم نحونا، وصافحها بحرارة:
- أهلا ملاك. مرحبا. غبور هادي.. مدة ما شرفتينا.
احمر وجهها، وأحست بالاضطراب، وهي ترمقني بنصف عين، حاولت التظاهر باللامبالاة، وأنا أتساءل في قرارة نفسي: " كيفاش قالت أنها عمرها زارت القنيطرة، والنادل يكلمها بكل هاد الحميمية؟ "
بدأت أستوعب الأمر، وأكتشف الخيوط. فعندما توجهت إلى النادل الأول كانت توصيه بعدم الكشف عن مناورتها، وهنا تأكدت بأنني سأكون من ضحياها السذج المغرر بهم.
بعد ان فرغت علبة السجائر التي تشاركتها معي، تعللت بالذهاب للكشك المقابل لأشتري علبة جديدة، وأنا أتكتك للفرار، لكن للأسف الشديد فقد كان الفضاء مفتوحا، ولن يمكنني من الاختفاء بانسيابية. ناولني صاحب الكشك علبة السجائر، ففتحتها ودخنت واحدة أمامه، وأنا أمني نفسي بعصى موسى أو بخاتم سليمان للاختفاء. فجأة وقفت سيارة أجرة كبيرة أمامي، وترجل منها راكبان. مد السائق عنقه من النافذة، وخاطبني:
- قنيطرة أخويا ؟
أومأت رأسي، وانسللت داخل السيارة، وقلت له:
- سير عالله..
من زجاج النافذة لمحتها تتحدث إلى النادل ولم تفطن لفراري على إيقاع أغنية:
سر فر
عيط.جبد.
مشات تصيد ساعة تصيدات.
نهار الحد
ما كاين حد
هي لي بغات..
المنبعثة من جهاز راديو سيارة الأجرة
تعليقات
إرسال تعليق